
تقع طرابزون، المدينة الساحلية المطلة على البحر الأسود، على بُعد يقارب 650 ميلًا من إسطنبول، وتضم في قلبها نسخة أخرى من آيا صوفيا. ورغم أن هذه النسخة أقل شهرة من آيا صوفيا الشهيرة في إسطنبول، إلا أنها تتميز بجمالها الفني الفريد وطرازها المعماري المميز. تُعد آيا صوفيا في طرابزون من أبرز المعالم الباقية التي تعكس فن العمارة البيزنطية المتأخرة، كما تمثل نموذجًا واضحًا للتاريخ الديني المتقلب الذي شهدته المنطقة، تمامًا كما هو الحال في إسطنبول وغيرها من المدن التركية.

شُيّدت آيا صوفيا في طرابزون ما بين عامي 1238 و1263 ميلادية خلال حكم الإمبراطور مانويل الأول كومنينوس، حاكم إمبراطورية طرابزون التي تأسست بعد سقوط القسطنطينية عام 1204 أثناء الحملة الصليبية الرابعة. ومع نهب المدينة وتفكك الإمبراطورية البيزنطية إلى دويلات صغيرة، ظهرت إمبراطورية طرابزون ككيان مستقل. عند بنائها الأول، خُصصت آيا صوفيا لتكون كنيسة رهبانية وجنازية. ومع توسع العثمانيين بقيادة محمد الفاتح عام 1541، خضعت طرابزون للحكم العثماني، أي قبل سقوط القسطنطينية بسنوات قليلة وانتهاء الدولة البيزنطية رسميًا.

ساهم موقع طرابزون البعيد عن إسطنبول في بقاء آيا صوفيا كنيسة لفترة تقارب المئة عام بعد الفتح العثماني، إذ لم يكن الضغط على التحول الديني قويًا في المناطق الطرفية ذات الكثافة السكانية المنخفضة. ومع حلول القرن التاسع عشر، أُهملت الكنيسة تدريجيًا بسبب قلة السكان الذين يؤدون فيها الصلوات. وفي ستينيات القرن التاسع عشر، استُخدمت المباني كمسجد، وهو ما ظهر لاحقًا من خلال طبقات الجص التي غطت الزخارف الجدارية المرسومة بتقنية الفريسكو والتي تم الكشف عنها عام 1957. وخلال أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، يظل تاريخ المبنى غامضًا بعض الشيء، لكن بحلول الحرب العالمية الثانية، تحوّل إلى مستودع عسكري.

بعد انتهاء الحرب، ظهرت مبادرة من حاكم طرابزون لتحويل آيا صوفيا إلى متحف، إلا أنها استُخدمت فعليًا كمسجد عام 1953. ثم شهدت لاحقًا تحولًا مهمًا عام 1957، بعد قيام عالم الآثار ديفيد وينفيلد بعمليات مسح كشفت عن جداريات مذهلة محفوظة تحت الجص، مما دفع إلى إعادة تصنيفها كمتحف. كانت تلك الجداريات تغطي معظم الأسقف والجدران بألوانها الزاهية ومشاهدها الدينية من الإنجيل والملائكة والرسل. كما بُني مسجد جديد قريب يُعرف باسم "يني فاتح" لتلبية احتياجات السكان المحليين بعد تحويل آيا صوفيا إلى متحف.
لكن في ثمانينيات القرن العشرين، ومع تصاعد التيارات الإسلامية والقومية في تركيا، عادت مطالبات بعض الجهات بإعادة المبنى إلى مسجد. وقد رفض مجلس الحفظ الإقليمي في طرابزون هذا القرار، موضحًا أن "الصرح لا يمثل فن العمارة العثماني للمساجد، بل هو في جوهره كنيسة تحمل قيمة فنية وسياحية كبيرة". ومع ذلك، لم تُحسم المسألة، وفي عام 2012، أعلنت مديرية الأوقاف أن علمنة المبنى خالفت "الحقوق الدستورية للملكية"، ليُعاد افتتاح آيا صوفيا في طرابزون كمسجد عام 2013، ولا يزال كذلك حتى اليوم.

أثار هذا التحويل موجة من الاعتراضات من منظمات محلية ومدافعين عن التراث، الذين حذروا من تجاهل معايير الحفظ والترميم. فاليوم تغطي الأسقف الزائفة أجزاء من الجداريات، وأضيفت السجاد والمحراب والستائر دون إذن رسمي من مجلس الحفظ أو اتخاذ تدابير وقائية مناسبة. في فترة عملها كمتحف، كانت القواعد صارمة للغاية بحيث مُنع التصوير بالفلاش حفاظًا على الألوان، أما الآن، فالموقع يفتقر لإجراءات الحماية، مما يعرض الرسومات للتلف.
من ناحية أخرى، عبّر العديد من أصحاب المتاجر في المنطقة عن غضبهم من قرار التحويل بسبب انخفاض أعداد الزوار والسياح، ما أثر على دخلهم بشكل واضح. وبينما يستند اعتراضهم إلى الجانب الاقتصادي أكثر من التراثي، إلا أن موقفهم يعكس غياب إشراك المجتمع المحلي في اتخاذ القرار، إذ يُعتقد أن عملية التحويل جرت دون أي مشاورات عامة.

في العمق، تُظهر هذه التحولات رغبة السلطات التركية في فرض نوع من "الملكية التاريخية" على المعالم. فبينما تصف الحكومة هذه التحويلات بأنها "ترميم"، فإنها في الواقع شكل من أشكال السيطرة التي تسعى لمحو التعدد الديني والثقافي الكامن في هذه المواقع. فتركيا لا تعاني من نقص في المساجد، وهناك العديد منها غير مستخدم، ما يؤكد أن الدافع سياسي وليس دينيًا. والدليل على ذلك أن طرابزون شيدت مسجدًا جديدًا بعد تحويل آيا صوفيا إلى متحف. وبالتالي، فإن إعادة المباني التاريخية إلى مساجد يُعد وسيلة لإحياء النزعة القومية وتمجيد الماضي الإمبراطوري العثماني.

لقد كانت آيا صوفيا في طرابزون كنيسة لقرون طويلة، ولم تتحول إلى مسجد إلا لفترة وجيزة جدًا، لذا فإن الادعاء بأنها "ملك شرعي" للعبادة الإسلامية غير دقيق من الناحية التاريخية. وهناك أمثلة عديدة في تركيا لمبانٍ مشابهة لآيا صوفيا شهدت المسار ذاته من المتحف إلى المسجد في السنوات الأخيرة.
إن الإبقاء على مثل هذه المعالم كمتاحف هو الخيار الأكثر إنصافًا واتزانًا، لأنه يحترم التعدد الثقافي والديني الذي يحمله المكان، ويتيح للأجيال القادمة التعرف على تاريخه من منظور علمي وفني بعيد عن الأيديولوجيا. أما تحويلها إلى أماكن عبادة فهو خطوة تُحوّل التراث إلى أداة سياسية في سياق تصاعد النزعات القومية وخلط الهوية التركية بالدين الإسلامي.
إن العلمنة هنا لا تمثل تهديدًا، بل وسيلة لتحقيق توازن تاريخي يحافظ على ذاكرة المكان بكل تناقضاتها. فغياب الملكية الدينية هو ما يمنح آيا صوفيا طابعها الإنساني الشامل، ويجعلها شاهدًا حيًا على تعاقب الحضارات بدلًا من أن تكون أداة لتكريس فكرة الهيمنة أو إقصاء الآخر.